وراثة الحكم الكويتي بين الدستور والأعراف
كتب:إسماعيل الشطي:
في عام 1999 طلب مني الأخ محمد الصقر (رئيس تحرير جريدة القبس آنذاك) اعداد ورقة حول مستقبل الكويت السياسي، وذلك لتقديمها لندوة خاصة كانت القبس ستعقدها وتدعو لها نخبة من رجالات الكويت لمناقشة مستقبل البلاد، وعلمت من الزميل الصقر أن الأستاذ جاسم السعدون سيعد ورقة حول المستقبل الاقتصادي والدكتور خلدون النقيب سيعد ورقة حول المستقبل الاجتماعي، ورغم أنني أعددت ورقتي الا أن ظروفا حالت دون انعقاد هذه الندوة، مما دفعني لتقديم ورقتي الى قلة قليلة من صانعي القرار بالبلاد، ولقد جاء في تلك الورقة تناولي لأزمة وراثة الحكم وما تسببه من قلق سياسي في المجتمع الكويتي، وذكرت ما يلي (عندما يحل عام 2005 يكون قد أمضى جابر الثالث (صاحب السمو أمير البلاد الحالي) ثمانية وعشرين عاما بالحكم، بينما يكون قد أطفأ ثماني وسبعين شمعة من عمره ليقترب من الثمانين، ولن يكون ولي العهد ونائب رئيس الوزراء الحاليين بعيدين عن هذه السن، وفي ظل هذه المرحلة من العمر يبدأ الانسان يفقد اهتمامات كثيرة وتتقلص عنده قدرات متعددة وتخفت جذوة حماسته للأمور، وتؤول قيادة مؤسسة الحكم بشكل عملي الى صفوف تالية ترعاها حكمة الكبار وهيبتهم مهما أطال الله في أعمارهم، واذا كنا نتحدث نحن عن مدى زمني لا يزيد عن خمس سنوات فان واقع مؤسسة الحكم ينبئ عن فراغ سياسي مخيف في الصفوف التالية، وهو فراغ لا نعني به غياب الورثة من الأبناء بل نعني غياب المؤهلين سياسيا لقيادة المؤسسة) انتهى.
في تلك السنة أدخل الشيخ صباح الأحمد المستشفى لاجراء عملية جراحية له في القلب من أجل تركيب جهاز لتنظيم دقات القلب، وبعدها بسنتين دخل الشيخ سعد العبدالله ولي العهد المستشفى لاجراء عمليات جراحية له ولم يخرج منها بكامل وعيه حتى الآن، أما صاحب السموالأمير فدخل المستشفى في عام 2003 لاجراء علميات له وها هو قد رحل عن هذه الدنيا الى رحمة ربه، وبجانب هؤلاء أدخل الشيخ سالم العلي للمستشفى أكثر من مرة، وتدهورت صحة الشيخ سالم صباح السالم (المرشح الأكثر حظا لولاية العهد آنذاك)، وانتقل الى رحمة الله أخوه الشيخ علي صباح السالم، أي أن الكويت عاشت وما تزال تعيش أزمة حكم منذ السنوات الثلاث الماضية بسبب اعتلال صحة قيادات الحكم السياسية، ونتج عن هذه الأزمة تجاوزات دستورية واحراجات سياسية وتأجيل لقرارات مصيرية تخص مستقبل الكويت مراعاة لاستقطابات وحساسيات داخل بيت الحكم، أو مجاملة لعواطف انسانية على حساب مصلحة الوطن.
يعتبر توارث الحكم من أخطر المسائل التي تواجه الملك، لذا آثر كثير من الأسر الحاكمة ترسيخ عرف لا يختلف عليه المتوارثون، فهناك من جعل ولاية العهد في الابن الأكبر وآخرون تركوه لارادة الحاكم في تعيين من يريد من أقربائه، واذا كان تاريخ وراثة الحكم عند آل صباح شهد تعاقبا بين الأخوة (محمد، مبارك، سالم، صباح الثالث)، فانه كذلك شهد تعاقبا بين الأبناء (عبدالله الأول، جابر الأول، صباح الثاني، جابر الثاني)، غير أنه بعد تولي مبارك بن صباح الثاني الحكم تم حصر الوراثة في ذريته وأدرج شرطه هذا في اتفاقيته مع البريطانيين عام 1899، وقد كاد البريطانيون يخلون بهذا الشرط عندما أرهقتهم سياسات سالم الأول كما تشير وثائقها التاريخية، اذ اقترح الوكيل السياسي البريطاني على أعيان الكويت آنذاك فكرة خطيرة وهي نقل الحكم الى واحد من آل صباح من غير ورثة مبارك، وهو جابر بن عبدالله بن صباح الثاني (والد عبدالله الجابر) حاكم فيلكا آنذاك، وكان يبلغ من العمر 67 سنة، وهو أخ لمبارك وعم لسالم وجابر وكان أقوى المرشحين بالنسبة للبريطانيين عام 1918 كوريث للحكم بعد سالم أو كبديل لسالم نفسه، وعندما جاء الكويتيون في مطلع الستينات من القرن الماضي لينظموا عملية الاختيار وضعوا شروطا خمسة في الدستور الكويتي تضمنتها المادة الرابعة منه، اذ اشترطت أن يكون ولي العهد رشيدا عاقلا، أي يدرك الأمور ويعي ما حوله ويتخذ قراراته بارادة من عنده ودون املاء من أحد، كما حصرتها في ذرية مبارك صباح الثاني، و اشترطت أن يكون ابنا شرعيا من أبوين مسلمين، وجعلتها تزكية من الأمير القائم لواحد يختاره او ثلاثة يختار أحدهم مجلس الأمة، وفي كلتا الحالتين اشترطت مبايعة المجلس له في جلسة خاصة حتى يستوفي شرعيته الدستورية، وبهذا أصبحت الأطراف المعنية بعملية توارث الحكم هي الأمير والأسرة ومجلس الأمة، وخلاف هذه الشروط، لا يوجد نظام يضبط اختيار ولي العهد من بين تشعبات وتفرعات الذرية، فقد جاء لمبارك بن صباح الثاني خمسة عشر ابنا وبنتا، لم يشكل ذريته منهم الا خمسة من الأبناء هم: جابر وسالم وحمد وناصر وعبدالله، وخمسة من البنات هن : شريفة(بيبي) وحصة وعائشة وموزة ومريم، وخلف هؤلاء جميعا ينطبق عليه نص الوراثة الوارد بالدستور، غير أن ثلاثة أعراف مستقرة حكمت مسألة الوراثة حتى قبل صدور النص الدستوري، الأول: هو حصر الوراثة في ذرية مبارك من الذكور الذين يتصل نسبهم بمبارك بن صباح الثاني، وكان ذلك احترازا لابقاء الحكم في أسرة الصباح، فخلف النساء قد يذهب بعيدا عن آل صباح طالما الأبناء ينسبون الى آبائهم، أما العرف الثاني: وهو أن استحقاق الوراثة ينحصر في كبار السن من الممارسين للعمل السياسي والراغبين في تسنم المنصب، اذ لم يشهد تاريخ الكويت السياسي على الأقل منذ حكم مبارك بن صباح الثاني قفزا من جيل الصغار أو تجاوزا لجيل الكبار، وظلت الأسرة منذ بواكير عهدها بالحكم تسند مهمة قيادة الأسرة والبت في شؤونها لجيل الكبار مقدمة هذا البروتوكول على كل الاعتبارات السياسية والرسمية داخلها، أما العرف الثالث: فهو الحرص الشديد لدى الأسرة على ابقاء اختيار وريث الامارة مسألة محصورة داخل نطاقها، ولعل نقاشات المجلس التأسيسي عند وضع الدستور كشفت عن هذا الحرص، ورغم أن الدستور جعل الكلمة النهائية للشعب الكويتي في هذه المسألة، الا أن الأسرة تجنبت بكل ما تستطيع نقل هذا الموضوع الى الساحة السياسية، ذلك خشية أن تتشكل أعراف سياسية تقيد من اختيارات الحاكم اذا ما أصبح الأمر مادة للجدل السياسي، وهو ما حدث فعلا بعد وفاة الشيخ سالم الأول عندما تحول قرار الاختيار الواسع بيد الشعب، وقرار الاختيار الضيق بيدها، ذلك بعد أن تولى الأعيان (بدعم من بريطانيا) ترشيح ثلاثة أسماء من ذرية مبارك تختار الأسرة واحدا منهم للامارة.
وباستثناء الشروط الدستورية الخمسة والأعراف الثلاثة المذكورة ظل نظام التوارث محكوما بالمشيئة الالهية والظروف السياسية المتقلبة، وهو ما يدفعنا للتأكيد على خطأ مقولات في هذا الصدد تروى كأعراف سياسية مستقرة في مسألة توارث الحكم في أسرة آل صباح، منها أن التوارث انحصر في فرعين من ذرية مبارك هما جناح جابر وجناح سالم استنادا إلى أنه لا أحد من جناح حمد وجناح ناصر وجناح عبدالله قد ورث الحكم قط من بعد مبارك بن صباح الثاني، اذ حكم الكويت ثلاثة من جناح جابر ما يقارب ثماني وخمسين سنة حتى الآن، بينما حكم ثلاثة من جناح سالم ما يقارب اثنين وثلاثين عاما، غير أن كل ذلك لا يمكن تفسيره الا ضمن المشيئة الالهية والظروف السياسية آنذاك، فقد كانت الفرصة سانحة لعبدالله المبارك الذي شغل منصب نائب الحاكم فترة طويلة، لولا تعجله وهجرته الاختيارية التي تبررها الوثائق البريطانية بالاعتراض على الاصلاحات السياسية، كما كان حمد المبارك أحد الأسماء المرشحة الثلاثة لخلافة اخيه سالم الأول إبان عملية الترشيح التي فاز بها أحمد الجابر، وهو ما يؤكد أن تناوب جناح جابر وجناح سالم لم يأخذا طابع العرف بعد، ومن تلك المقولات التي تروى كعرف هو أنه لا يصح أن يولى العهد شخص من نفس جناح الحاكم (الأمير) الممارس للحكم، غير أن هذه المقولة لم تكن موضع اعتبار قط عند قيادات الأسرة، فقد ترشح عبدالله السالم لولاية العهد بعد موت أبيه مباشرة، كما تولى ولاية العهد الشيخ صباح سالم الصباح أثناء ولاية أخيه عبدالله السالم، ورغم أنه تردد في الأوساط السياسية والوثائق البريطانية أن رغبة الشيخ عبدالله السالم كانت متوجهة لتولية الشيخ جابر الأحمد، الا أن ذلك ما كان ليتم لأنه سيكسر العرف السياسي الخاص بكبر السن، فما كان لعبدالله الثالث أن يفعله في ظل وجود الشيخ محمد الأحمد والشيخ صباح السالم.
ان أزمة وراثة الحكم التي تواجهها الأسرة تتمثل في ثلاثة أوجه:
الأول، اتساع ذرية مبارك وتشعب أجنحتها بشكل يصعب فيه استرضاء الجميع، وفي وقت أصبح فيه معظم أفراد الذرية لا تعوزهم حاجة للمال بقدر ما تعوزهم حاجة لتحقيق الذات داخل المجتمع الكويتي، مما يدفع الكثيرين منهم لاستخدام نفوذه الأسري للتأثير في علمية التوازنات بين الأجنحة من أجل الحصول على منصب يبدأ منه مشواره السياسي، ورغم أن تحقيق كل رغبات اولئك المتطلعين أمر بالغ الصعوبة الا أن ما يتحقق منه موضع نقد ونقمة بين أبناء الشعب، اذ إن أغلبهم يزاحم أبناء الشعب في الجهاز الوظيفي مستغلا انتسابه لأسرة آل صباح للقفز على سلم الترقيات وحجز المناصب القيادية.
الثاني، قلة الأهلية السياسية، فمعظم المتطلعين للمناصب القيادية (وليس كلهم) قليلو الأهلية السياسية ولا يبذلون جهدا حقيقيا لاكتساب المعرفة والدراية والمهارة في التعامل وفهم الشؤون المحلية، ويسعى البعض لتغطية هذا القصور باقتحام المنظمات الرياضية، ورغم أن منحى كهذا خطر على الأسرة الحاكمة لأن جماهير الرياضة ستلقي اللوم على الأسرة عند الاحباطات والفشل الرياضي، الا أنه لم توفر الأسرة وسيلة أخرى لتأهيل شبابها سوى الرياضة، وهو خلاف ما اعتاد عليه آل صباح خلال تاريخهم، فقد حرصوا أثناء حكمهم المديد على تأهيل صفوف تالية تحكم بعدهم من خلال العمل السياسي، اذ كان عبدالله الأول لصيق والده ابان حكمه وعندما تولى الحكم جعل من أخيه مبارك ذراعه الأيمن وأقحم ابنه دعيج في شؤون الحكم، بينما ترك صباح الثاني تسعة أبناء تولى أربعة منهم شؤون الرعية، ولقد كان الذي يتولى الشؤون المالية بمثابة الرجل الثاني، والذي يتولى شؤون الحرب هو الرجل الثالث، وقد تولى جراح بن صباح الثاني الشؤون المالية بينما تولى أخوه مبارك شؤون الحرب في العهد السادس، وتولى جابر المبارك الشؤون المالية وصباح المبارك الشؤون الداخلية بينما تولى سالم المبارك شؤون الحرب في العهد السابع، وظل سالم طوال حكم أخيه مسؤولا عن الحرب حتى تسلم زمام الحكم، وفي عهده أولى ولده عبدالله مسؤوليات مختلفة بينما كان ابن أخيه أحمد الجابر ينوب عنه في كثير من المفاوضات والاتفاقات، كما كان عمه عبدالله بن صباح الثاني حاكما على فيلكا، وعندما تولى أحمد الأول حكمه كان عبدالله السالم المسؤول عن المال بالبلاد والرجل الثاني على الاطلاق، في الوقت الذي تولى فيه فهد السالم شؤون الصحة وصباح السالم شؤون الأمن العام وعلي خليفة بن عبدالله الثاني ثم من بعده عبدالله المبارك شؤون الحرب، غير أن عبدالله الثالث سلك سبيلا أكثر حنكة وذكاء، فقد شكل مجلسا أعلى للحكم ضم مزيجا من جيله والجيل الذي يليه، وكان بذلك يجهز صفا ثانيا متعدد الأطراف يتشرب تقاليد الحكم ويتمرس في صناعة القرار السياسي، ولقد ظلت تجربة هذا المجلس مصدرا يزود الكويت برجالات الحكم حتى هذه اللحظة، غير أن القيادات الحالية أهملت هذا الجانب من مسؤولياتها وألقته في سلة الأقدار بصورة تهدد تماسك بيت الحكم.
الثالث، الحفاظ على الأعراف المستقرة، فهناك مطالبة اليوم داخل الأسرة بالتوسع في مشاورات اختيار وريث الحكم خارج نطاقها وتحويله الى قضية حوار سياسي شعبي، وهي مطالبة تنتهي بكسر العرف التقليدي الرامي لابقاء موضوع وراثة الحكم داخل نطاق الأسرة، فضلا على أن هناك مطالبة أخرى بعدم التزام أولوية الأجيال المتقدمة على المتأخرة في وراثة الحكم، وهي كذلك مطالبة تنتهي بكسر العرف المستقر باحترام ترتيب الأجيال، فقد شهد عاما 2004 و2005 تصعيدا اعلاميا ملحوظا للمطالبة بكسر تلك الأعراف المستقرة في وراثة الحكم، رغم أن من يطالب بذلك اكتسب مكانته ونفوذه من خلال هذا العرف.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home